مدونة شخصية متخصصة في سرد ذكريات صاحبها يكتبها عامر حريري

إفتتاحية المدونة

مرحباً بك يا صديقي
عندما توقفت عن الكتابة في مدونتي السابقة خطوات كنت عازماً على التوجه بشكل كامل نحو النشرات البريدية ورأيت أنها بديل مناسب لي أكثر من الكتابة في مدونة لأن الأمر أشبه بكتابة وتحرير مجلة أو منشور وإرساله الى المشتركين وينتهي الأمر بعدها من دون أن تشعر بذلك العبء النفسي الذي يلح عليك بأن لديك مدونة عليك أن تكتب بها.
استطعت أن أنتظم والحمد لله في كتابة نشرتي " شيء من حتى " على مدى أكثر من ثلاثة أشهر وأصبح ذلك جزءاً من عاداتي اليومية خلال يومي السبت والأحد.
كل هذا جميل ولكن بعد فترة بدأت تنتابني أفكار حول كتابة أحداث متفرقة من مذكراتي بحيث لا ألتزم بتسلسل زمني أو مكاني أو نوعي كما أفعل في المذكرات التقنية التي أنشرها في نشرتي الإسبوعية، الأحداث التي أراها جديرة بأن تُحكا وليس كلاماً مكرراً عن عادات يومية نقوم بها أنا وأنت وجميع الناس.
وزادت رغبتي على مر الوقت في القيام بذلك وكان السؤال هو :
هل أنشر مذكراتي هذه في نشرة أخرى أم أعود الى الكتابة في مدونة ؟
كان خيار النشر من خلال نشرة أخرى غير عملي لأني أخطط فعلاً لإصدار نشرة متخصصة على منصة هدهد ولا أريد أن أُكثر من الكتابة عن طريق النشرات الإسبوعية لذلك بقي خيار المدونة ولكني لم أرد العودة الى أحضان منصّات التدوين التي تأخذ مالك وتجبرك فوقها على القيام بما تريده على مزاجها أو لا تأخذ مالك وتقوم بإجبارك أكثر وتوشك أن تضع اسمها واعلاناتها في كل مكان في المدونة .
وكنوع من الحل الوسط قررت أن تكون مدونة ولكني سأنتهز فرصة أنني في طور تعلم تطوير الويب وأقوم بتصميمها وبرمجتها بنفسي، لن تكون بها سوى الصفحة الرئيسية وبعض العبارات التي تشرح ماهيتها وبعض الروابط التي تدل على صاحبها.
أريد أن أبني المدونة بنفسي لأن هذا الذي كان من المفترض أن يكون قبل أن تأتي تلك الشركات الكبيرة وتفرض وصايتها وتصورها على الناس وتحول معظمهم لمجرد مستهلكين، أريد أن تكون المدونة كما أتصورها بالضبط وليس كما يتاح لي أن أتصورها.
من المؤكد أنها لن تحوي تلك المزايا التي توجد في خدمات التدوين كالتعليق وأزرار المشاركة ولكن لا بأس بذلك لأن الهدف بالنتيجة هو قراءة النصوص التي تحتويها ومن الممكن أن يتم التعليق والمناقشة على تويتر تحت الرابط الذي سأنشره هناك كلما كتبت شيئاً هنا وهذا - لو حدث - سينشّط حسابي على تويتر ويفتح باب نقاش مرن أكثر.
وهكذا قضيت ساعات في البحث عن شكل مناسب لها، بدأت بتصميم الشعار الذي أخذ مني وقتاً لا بأس به، للأمانة لم أصمم كل شيء من الصفر بل استعنت برسومات جاهزة ولكن التصور كان من بنات أفكاري واخترت بعدها الألوان ورسمت المقعد الخشبي والدائرة الملونة الشفافة قليلاً كناية عن الحائط، وتأملته بعدها في رضا ثم بدأت تصميم وبرمجة المدونة وشيئاً فشيئاً بدأ نمط التصميم والألوان بالظهور، حاولت أن يكون بسيطاً ومريحاً وبعيداً عن الإزدحام قدر الإمكان وآمل أن ينال إعجابك.
اخترت للمدونة اسم " المصطبة ".
لماذا اخترت هذا الاسم بالذات !؟
دعنا نتفق على ذلك، عندما تتصفح مدونتي هذه سأطلب منك أن تتخيل أننا نجلس أنا وأنت على مصطبة أمام منزل مستقل مكون من طابقين وحديقة صغيرة بحيث نستطيع أن نرى الحقول والأشجار والبيوت المترامية حولنا.
هل ترى تلك البقعة الكبيرة التي تنبعث منها الأضواء في الليل؟
تلك هي المدينة القريبة التي يزيد مشهدها المنظر جمالاً وعمقاً.
هناك إبريق مع كأسين من الشاي وهناك نسمات رحيمة تهب باستمرار بينما نشرب الشاي وأقص عليك هذه الذكرى أو تلك.
ما أرغبه وأرجوه من كل قلبي أن يعجبك ما سأقوله وأن تغادر هذه الجلسة وأنت تشعر بقدر ما من الممنونية، لو حدث هذا فسأكون قد حققت هدفي من إنشاء المدونة وسأكون في غاية الرضا.
هل عرفت الآن لم أسميتها بهذا الاسم 🙃
ستقرأ عن أمور كثيرة حدثت معي خلال مراحل مختلفة من حياتي، أنا الآن أقترب من إكمال أول سنة بعد الأربعين ولدي العديد مما أستطيع أن أحكيه لك، لم يكن من الوارد أن أتكلم عن ذكرياتي عندما كنت في العشرينات أو الثلاثينات ولكن التقدم في العمر أوصلني لمستوى معين من النضج بحيث أستطيع أن أميّز بين ما أستطيع قوله وبين ما تفرض الخصوصية أن يبقى في طيّ الصمت.
بقي احتمال أن أنشر هذه الافتتاحية في المدونة ثم أكف عن الكتابة بعد أن تلحقني مرة أخرى لعنة عبء التدوين النفسي 😊
ولكن لا أعتقد أن هذا سيحدث لأن الكتابة في النشرة الإسبوعية قد جعلني أشفى من ذلك أو هذا ما أعتقده.
سأبقى على الدوام جالساً على المصطبة منتظراً زيارتك بكل صبر.
مرحباً بك دائماً.

أكمل القراءة

الذين كانوا

النصف الأول من عام 2001
سمعت اسمي ينادى به من خلال مكبر الصوت فأسرعت بالركض وأديت التحية العسكرية بطريقة مضحكة ثم اقتربت واستلمت ورقة الاجازة وأنا في غاية السعادة، كانت هذه أول مرة أحصل فيها على إجازة ليومين أو ثمان وأربعين ساعة على وجه الدقة العسكرية، هذا يعني يوماً مدنياً إضافياً كاملاً أقضيه بين الوجبات اللذيذة ورؤية الأقارب والسير عبر الأحياء التي أحبها في مدينتي حلب.
كنت أؤدي أيام الدورة العسكرية في مدرسة المحاسبة في منطقة مصياف التابعة لحماة والغير بعيدة عن الساحل، الأيام التي أقل وصف يقال عنها بالنسبة لي أنها سوداء على كحلي أنا الذي لم أستطع التعود حتى آخر يوم لي في الجيش على ما يقال عنها أنها حياة عسكرية، الواقع أن توصيفها بحياة هو نوع رخيص من الكذب لأن أداء خدمة الجيش في سوريا معناه أن تموت سنتين من عمرك على الأقل وتذهب بلا أي فائدة وبالعكس تماماً هناك أذى نفسي سيلحقك مهما اعتقدت بعكس ذلك ولا زلت أذكر تلخيص عمي الأكبر رحمه الله لمعنى أن تذهب للجيش بهذه العبارة :
- الجيش هدفه أن تدخل إليه لتخرج منه خائفاً قانعاً بأقل القليل.
ذهبت بسرعة وأخذت حقيبتي وأسرعت نحو الباب الرئيسي، كان عليّ إيجاد وسيلة للسفر لحلب كون أنها المرة الأولى التي أسافر فيها لوحدي وبدون صحبة أصدقاء الجيش، كان هناك أشخاص يقفون منتظرين بدراجاتهم النارية من يريد الذهاب لكراج السفر الصغير الملحق بالبلدة، لم أكذب خبراً ووجدت نفسي أتشبث في الدراجة بقوة بعد أن بدأ سائقها يتقافز ليصل بسرعة فائقة للكراج، وبعدها لم يكن الوصول الى حلب صعباً.
الأمر الصعب كان عند عودتي الى المدرسة، كان هذا في مساء يوم الجمعة، لم أقصد بالصعب هنا فكرة أن عليّ الانتظار أسبوعاً آخر ساعاته كالأيام لكي أعاود السفر مجدداً الى حلب ولكن الصعب جداً كان اكتشافي أن أغلب أصدقائي قد قُطعت دورتهم بقرار مفاجئ وأنهم انتقلوا لدورة تدريبية على أجهزة حاسب وبرامج معينة ليتم فرزهم بعدها لإدارات الجيش في قلب العاصمة دمشق، كانت ليلة سوداء بكل معنى الكلمة قمت فيها بكل كفاءة بتجديد أحزان من بقي ولم يأخذ إجازة مثلي من أولئك الذين رأوهم وهم يحزمون كامل حقائبهم ويغادرون المدرسة بلا رجعة.
هكذا مضت الأيام بأبطأ مما كانت الى أن أتى موعد الفرز الى الأماكن التي سنكمل فيها خدمتنا حتى نهايتها، وبطبيعة الحال ولأنهم أخذوا حاجة الإدارات التي تقع داخل دمشق كان فرز الأغلبية وأنا منهم في القطع العسكرية التقليدية التي تتمركز خارج المدن وكان نصيبي قيادة الفيلق الأول التي تقع على طريق السفر في منتصف المسافة تقريباً بين دمشق ومدينة السويداء.
اكتشفت بعد ذلك أن هناك جانباً إيجابياً فيما حدث وهو أنهم بتواجدهم جميعاً في دمشق قد أصبح عندي من أقضي عطلة نهاية الإسبوع معه بدلاً من أن أقضيها داخل القطعة العسكرية وهكذا كان، في البداية كانوا قد استأجروا بيتاً واحداً ينامون فيه جميعاً، عشرون شخص في بيت واحد !!، ولكي لا يتعرضوا للطرد من البيت كانوا يحرصون على أن لا يخرجوا منه دفعة واحد بل على شكل مجموعات صغيرة بفواصل زمنية معقولة.
وبهذا العدد الكبير والمتنوع من العقول والأذواق والأديان حتى كان لا بد من حدوث مواقف طريفة إحداها أن واحد منهم ولنُسمه زهدي كان لديه كيّف خاص يتمثل في إعداده النارجيلة وجلوسه أمام شاشة التلفاز قبل الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بقليل ووضعه الدش على قناة معينة في القمر الأوروبي والانتظار بعدها في صمت، كانت من تلك القنوات التي تعرض محتوى إباحي لعدة دقائق قبل أن تُشفر وكان ينتظر تلك الدقائق بالذات، ولم يعجب هذا أحد الساكنين ولنسمه عزيز الذي يعتبر ما يقوم به قمة في العيب والإنحراف وكان يهدده دائماً بأنه سيرمي طبق الاستقبال للشارع لو استمر بفعل ذلك.
حتى كانت تلك الليلة التي جلس فيها زهدي لينتظر بدء البث المجاني للقناة وبصحبته كالعادة نارجيلته المشبعة بالمعسل، عينه اليمنى معلقة على الشاشة واليسرى متجهة نحو الساعة .. كان عزيز نائماً على الكنبة المجاورة ... أشارت الساعة نحو الواحدة تماماً ومضى عقرب الثواني من دون أن يبدأ البث، هنا بدأ زهدي يشعر بالقلق، هل أقفلت القناة يا ترى !؟ هل أصاب الدش عُطل ما !؟ .. هل هناك من عطّل الدش عامداً متعمداً !؟.
هنا احمرت عينا زهدي وقد تجاوزت الساعة الواحدة بدقيقتين ونظر بغضب نحو عزيز الغافل عن كل ما يجري حوله وبسرعة وبحنكة استل زهدي رجله وضرب عزيز ضربة أوقعته من الكنبة وقام بعدها وهو ينتفض في رعب على حين كان صراخ زهدي يدوي في أنحاء المنزل، وبدء عزيز بالصراخ الغاضب أيضاً عندما فهم ما هناك، هنا بدء بث القناة أمام أعين زهدي الملهوفة الذي حاول تهدئة الوضع ولكن هيهات ويبدو أن عزيز تقصّد رفع صوته وتشتيت ذهن زهدي الى أن انتهت الدقائق المفتوحة وساد التشفير سطح الشاشة.
اكتشفنا فيما بعد أن أحد المقيمين قد قرر عمل مقلب بزهدي فقرّب عقارب الساعة بضع دقائق للأمام لكي يظن أن مشكلة ما قد حدثت ولم يتصور أن يكون عزيز نائماً داخل كادر المقلب وأن تتطور الأمور لهذا الحد.
حوادث عديدة باسمة جرت خلال تلك الفترة، تكفّل الزمن بنسيان بعضها وبقي ما بقي عالقاً في الذاكرة، السهرات والضحكات والمزاح وكثير من الأماني والرغبات التي قالها شباب بدؤوا مشوار حياتهم بالكاد.
أين همُ الآن !؟
لو أطلقنا بعض الخيال من عنانه لقلنا أن بعضهم لا بد أنه جاء لتركيا وبعضهم هاجر لما هو أبعد، قد يكون بعضهم راقداً الآن في أعماق المحيط أو داخل قبر على أطراف دولة أوروبية ما، لا أعتقد أن أحداً منهم قد بقي في سوريا ولكن إن حدث ذلك سيكون إما في معتقل ما أو تحت التراب أو سيكون أحد المحاربين مع قوات المعارضة أو قوات النظام .... قد يكون أحدهم قد ظهر في تسجيل مجزرة حي التضامن الذي لم أجرؤ على مشاهدته كاملاً.
أين هم الآن !؟
هذا سؤال ليس من الصعب تخمين إجابات كثيرة له للأسف.

أكمل القراءة

شكوى وتنمّر وأمور أخرى

هناك حقيقة دامغة غير قابلة لأي نقاش أو محاولة لإثبات عدم صحتها بشكل أكثر حِدة من الحقائق العلمية نفسها، تقول هذه الحقيقة أنني أكره المدرسة بشدة.
قد يكون فعل الكراهية هنا غير معبر بشكل كامل عن حقيقة شعوري ولكن لابأس به طالماً أن الجملة تنتهي بالشدّة كونها كلمة تأكيدية لا بأس بها أبداً.
ذلك الشعور المقبض الذي كان ينتابني حين أستيقظ في الصباح الباكر البارد والذي يزداد بشكل لا يوصف عندما ترتطم بذهني فكرة أنني أستعد الآن للذهاب الى المدرسة ...
يا لها من بداية يوم سوداء... تلك البداية التي تشاركني بها السماء المكفهرة التي تنذر بأي لحظة بسقوط المطر .. رائحة وقود السيارات في الشارع المثيرة للغثيان وأصوات أبواق الشاحنات القادمة من بعيد والكتل المتفرقة المتدفقة من الطلاب المتجهة بوجوه جامدة ناعسة وتعسة نحو المدرسة .. المشهد اليومي المتكرر طوال العام الدراسي.
كان مجيء العطلة الصيفية مناسبة سعيدة حقاً لا يجاريها في ذلك سوى أعياد الفطر والأضحى، العطلة التي كانت تمتد لحوالي ثلاثة أشهر شكلت فترة استراحة رحيمة من عذاب سيزيف اليومي الذي كنت أتعرض له طوال العام الدراسي، وحتى هذه الفترة لم تسلم من التنغيص عندما يراودني هاجس أن كل هذا سينتهي وأن أول يوم من السنة الدراسية القادمة آت لا محالة كجزء جديد من فيلم الرعب الذي يبدو أن لا نهاية قريبة له.
بيني وبينك ولا تعد كلامي نوعاً من المبالغة الزائدة عن الحد ولكن برغم سني الصغيرة فلقد كنت أتعامل مع قضية الذهاب للمدرسة على أنها فعل مشابه للذهاب للمعتقل من دون أن ترتكب شيئاً ما يستحق ذلك .. عالم قريب من عوالم فرانز كافكا الكابوسية .. الحقيقة أن ليس هناك مبرر حقيقي لأن يوضع أي أحد في معتقل.
قد تعد هذا الكلام نوعاً من التهويل التي سببته عُقد الطفولة وكراهية أغلب الأطفال الطبيعية للمدرسة، لكن بالنسبة لي كان الأمر يتخطى هذا وفيما بعد ومع تطور أسلوبي في التفكير فهمت أن المدرسة في الدول الشمولية هي المهد الأول لزرع العديد من مبادىء التدجين والترويض ومحو أكبر قدر ممكن من إمكانية نشوء وعي اجتماعي سليم يرفض الخطأ ويعتنق الصواب، وكان هناك الكثير من هذه الأساليب بمستويات مختلفة بدءاً من عريف الصف الذي هو طالب من نفس الشعبة يكون غالباً ابن المدرس أو أحد أقرباء الهيئة التدريسية أو على الأقل شخص انتقي بعناية لكي يؤدي مهمة إبقاء الشعبة الدراسية هادئة في حال غياب المدرس لسبب ما وكتابة اسم أي شخص يخرق هذا الصمت وإعطاء اسمه للمدرس عند عودته، هكذا يتم تأسيسه ليصبح فيما بعد كاتب تقارير ومراقباً للمزاج العام في أي مكان يتواجد به سواء أكان موظفاً أم سائق تاكسي أم حلاقاً.
ذلك الأمر الصارم من المدرس بأن ينحني جميع الطلاب وهم جالسون ويلصقوا وجوههم بأسطح المقاعد ويحيطونها بأيديهم مع توعد شديد لمن يرفع رأسه بأشد أنواع العقاب كنوع من زرع مخاوف مبهمة لمن يجرؤ في المستقبل على التفكير بأن يرفع رأسه ويكف عن طأطأته.
الأمثلة كثيرة جداً ولا مكان كاف لها هنا، بالنسبة لي أزعم أن فكرة معينة كانت تسيطر عليّ قد حمتني من التأثر بكل هذا التخريب المتعمد للعقل والوعي وهي أنني مجبر على المجيء الى هنا وأنني أكره كل تفصيلة أسمعها أو أراها أو حتى أشمّها، ولم تمر هذه الفكرة من دون آثار جانبية طبعاً ولكنها على الأقل أبعدتني عن الاحتمال المرعب بأن أتقبل كل هذا وأعيش به وأعتنقه طوال عمري.
كانت مدرستي الابتدائية تمتلك نظاماً يفرض فصل الجنسين اعتباراً من الصف الخامس، وهذا يعني أنني سأترك أصدقائي الذين كان أغلبهم من أبناء المعلمات والذين بقوا في فترة دوام الإناث وانتقل للدوام في فترة الذكور وقد قمت بذلك لعدة أيام قضيتها وحيداً بلا أصدقاء وكان الوضع في فترة الذكور أشبه بمجموعة من الزومبي المتوحشين الذين لا يكفون على ركل بعضهم وتبادل الضرب عن طريق الحقائب كنوع من التسلية، أصابني هذا بالرعب لدرجة ذهبت بعدها لأمي وأخبرتها بتصميم بأني لن أذهب للمدرسة مرة أخرى، ويبدو أنني كنت مصمماً لدرجة بدأت فيها الاتصالات لحل هذه المشكلة، تعرفون مبدأ أن فلان يعرف فلان وفلان يعرف فلانة ومن أجلي ولن أنسى لكم هذا، وهكذا وجدت نفسي أعود لأصدقائي وأكون الوحيد الذي حظي بهذه المكرُمة من دون أن يكون ابناً لمعلمة وهكذا تكونت الشعبة من أربعة ذكور ونحو أربعين من الإناث.
ولأننا نحن الذكور – كما ترى – أقلية فهذا جعلنا هدفاً لتنمر الفتيات وكنا نأكل علقة كل فترة وأخرى عندما ننسى حجمنا الحقيقي ونتصرف باعتبارنا أحفاد "سي السيد" ... بالنسبة لي كنت استعمل استراتيجية الاستسلام التام بحيث تنتهي المعركة قبل أن تبدأ وهذا جنبني مصير أحد الباقين الثلاثة الذي كان ضئيل الحجم وهذا ساعد بعض الفتيات ضخام الجثة على امساكه والتلويح به من قبعة معطفه ودفعني هذا المشهد لنوبة طويلة من الضحك.
وباعتباري من أحد الذكور القلائل الناجين من مذبحة فصل الذكور عن الإناث وباعتباري أقلهم مشاكسة فلقد كنت أجد نفسي في مواقف غريبة منها أن إحدى الفتيات قد طلبت مني أن أصطحبها لبيت زميلة أخرى لكي تشكوها لوالدها، تلك الزميلة الأخرى كانت تعيش مع زوجة أبيها بعد طلاق والديها في بيت قريب من المدرسة، لم تشأ أن تذهب لوحدها فهي فتاة صغيرة بالنتيجة والدنيا شتاء والمساء يهبط بسرعة لذلك وجدت نفسي أسير معها متجهين الى بيت أهل تلك الفتاة، وعندما وصلنا دخلت هي وبقية بانتظارها أمام الباب، عادت بعد دقائق وأخبرتني أن المهمة أكملت بنجاح وأنها شكتها لوالدها .... بعد ذلك بسنوات طويلة كنت أسير مع زوجتي وطفلتي في نفس الشارع ومررت بجانب المنزل وتذكرت تلك الحادثة الطريفة ووقفت أتأمل باب البيت الذي بقي كما هو ولم يتغير ولمحت لافتة مكتوب عليها اسم تلك الفتاة مسبوق بلقب محامية، وقد صارت الآن تستطيع رفع دعوى ضد تلك الفتاة التي شكتها لوالدها باعتبارها شكوى كيدية 🙂.
في أغلب الأوقات وبهاجس الخوف من التأخر عن المدرسة لكي لا ينالني عقاب ما كنت أصلها مبكراً وأقف أمام الباب المغلق منتظراً موعد دق جرس الدخول، كانت هناك فتاة تصل مبكرة هي أيضاً واعتدنا على الصعود والجلوس فوق جدار المدرسة وكانت تجلب معها بعض حبات الجانورك مع بعض الملح المرصوص بورقة صغيرة وكنا نأكلها سوية، وقد استلهمت فيما بعد بعض أحداث حكاية " ابنة القمر " التي هي جزء من رواية " حكايا رحمي فؤاد " من ذلك المشهد، طبعاً بعد أن استبدلت أحاديث الأطفال بأحاديث أخرى، تستطيع قراءتها لو أحببت بتحميلها من هنا .
من الأمور المحزنة التي أتذكرها هي ما جرى مع إحدى فتيات الشعبة التي كانت تجلس في المقعد ورائي، فتاة ضئيلة الحجم لا تكف عن الابتسام، فجأة لم أعد أراها، سألت عنها أحد صديقاتها فضحكت ثم قالت في خجل أنها لن تعود الى المدرسة لأنها خُطبت، سكتُ وأنا أشعر باستغراب وحيرة كبيرة، بعدها بفترة كنت أسير متجهاً الى بيت جدي عندما شاهدتها تجلس على حافة قضبان نافذة حديدة في الطابق الأول من أحد البيوت التي تشرف على الشارع، لم أحييها طبعاً لأن هذا عيب ولأني شعرت بأنها لم تعد تلك التي كانت تكتب الوظائف وتقف أمام السبورة أحياناً لتجيب على سؤال ما، فتاة ضئيلة الحجم تجلس في شرود على حافة نافذة محاطة بالقضبان.
من الأمور الطريفة التي أتذكرها أنني سمعت في البيت خبر وفاة الموسيقار محمد عبد الوهاب من خلال حديث جرى في المنزل حول هذا الأمر، نِمتُ وأنا أفكر بهذا الخبر ثم صحوت في الليل على صوت الجامع القريب وهو ينعي موت شخص ما خيّل إلي أنه محمد عبد الوهاب نفسه، يبدو أنه حدث كبير حقاً حتى يقوم مؤذن جامع الحيّ بمعاملة عبد الوهاب كأنه أحد أفراد الحيّ، وفي الصباح لم أُطق الانتظار وأخبرت المعلمة فور دخولها بأني سمعت نعيَّ محمد عبد الوهاب من جامع الحيّ وغرقت المعلمة بعدها بموجة ضحك طويلة 😊.
وبمناسبة الحديث عن موسيقار الأجيال كانت في الشعبة عندنا فتاة لها صوت جميل وكانت المعلمة في بعض الأحيان تدعوها لتقف أمامنا وتغني، كانت تغني أغنية "ما تفوتنيش أنا وحدي" لسيد مكاوي، صوتها جميل ومعبر وكانت هذه أحد الملامح التي جعلتني أبقى في حدود الجمل الجميل ولا أتخطاها نحو الخراب الفني الذي حصل ويحصل باستمرار.
ولأني كنت من ذلك النوع الهادئ الذي يبتعد عن المشاكل ويحب القراءة كثيراً كان لا بد أن أتعرض بشكل طبيعي للتنمر، وكان مصدر التنمر أحد أبناء المُعلمات في الشعبة، ولد ضخم عدواني لا يكف على الصراخ وعلى إثبات قوته، كنت أنا هدفاً سهلاً بالنسبة له، سهلاً لدرجة أنه لو كان يمتلك وعياً أكبر لما رأى ما يستحق التنمر، هكذا نجح من خلال تنمره في صبّ المزيد من الزيت على نار كراهيتي للمدرسة، عرفت فيما بعد أن والده هو أحد المعتقلين بتهمة انضمامه للإخوان المسلمين، وهي تهمة خطيرة جداً في سوريا ذلك الزمن وفي أي زمن قادم خاصة أننا كنا في نهاية الثمانينات وما حدث كان في أولها، ويبدو أن فقدان الأب وتعيّيره بأن أباه خائن من كل من يريد اثبات ولائه للسلطة بهذا الأسلوب الرخيص قد جعل عدوانيته فوق المستوى الطبيعي.
في الأفلام التي تصور تنمر الصغار على الصغار كان الفيلم ينتهي عادة بأن يندم المتنمر على أفعاله ويصبح شخصاً صالحاً ولكن هذا لم يحدث في حالتي لأنني لم أستطع التخلص منه إلا بعد أن انتقلت للمرحلة الإعدادية ولم أعد أراه كونه كان يسكن بعيداً عن منطقتي وكان السبب الوحيد لوجوده في مدرستي هو أن أمه كانت معلمة بنفس المدرسة.
ولكن النهاية كانت حزينة حقاً، علمت فيما بعد أن أمه قد حصلت على الطلاق من زوجها وتزوجت شخصاً آخر وهذا أدخلها في مشاكل مع أبناءها، وبعد عدة سنوات خرج الأب وأخذ أبناءه ليقيموا معه، وكان آخر ما سمعته أن الابن اعتقل في بدايات الثورة ودخل لأحد المعتقلات، كنت أراه وأنا صغير على أنه متنمر ووغد ولكنه كأغلب من يعيش في مجتمع كانت المدرسة فيه أشبه بمعتقل كان مجرد ضحية بائسة لا أكثر.

أكمل القراءة

خارطة الطريق

النصف الثاني من عام 2012 .....
من أكثر حبكات الرعب التي تستعمل في الأفلام : هل جارك يا ترى هو جارك حقاً أم أنه كائن ما يتظاهر بأنه هو !؟ .. هل الشوارع التي تمشي بها هي نفسها شوارع طفولتك أم أن شيئاً ما تغيّر وجعلها أبعد من أن تكون مصدراً للأمان والبهجة !؟
حلب وقتها قد قسمت لمناطق بين المعارضة والنظام .. كانت هناك ليلة قضيناها في الممر الواصل بين الغرف في منزلي على وقع أصوات الرصاص وهم يحاولون السيطرة على مخفر الشرطة القريب من شارعنا، أتى أبي بسيارته في الصباح ومضينا الى بيت أهلي وأنا أتوقع أن الوقت لن يطول قبل أن أعود لبيتي .. على أن الوقت قد طال ليصل الى هذه اللحظة.
كانت أياماً سوداء بكل ما يملكه هذا الوصف من معنى .. الكهرباء مقطوعة غالب الوقت ولا تأتي سوى لفترة محدودة جداً لدرجة أننا كنا نترك التلفاز مفتوحاً حتى يوقظنا صوته لو أتت في الليل عندها كنا نقفز من النوم بكل نشاط لتتجه طفلتاي الى التلفاز لتتفرجان على قنوات الأطفال وزوجتي نحو المطبخ وأنا نحو الحاسب لكي أعرف ما يجري عن طريق تويتر الذي كنت أدخله من خلال متصفح تور.
قضيت حوالي الشهرين جالساً في المنزل الى أن اتصلوا بي في العمل لكي أعاود الدوام فهم بحاجة لمن يسد نقص الموظفين بعد أن توقف بعضهم عن المجيء كونهم يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة.
لم أكن راغباً بمعاودة الذهاب للعمل في البداية، كنت خائفاً من حواجز التفتيش التي سمعت أنها أُقيمت في كل مكان، ولكن البيت الذي يحتاج للمصروف لم يترك لي أي خيار آخر سوى التوكل على الله والنزول صباح اليوم التالي ... المواصلات قليلة وأُجرتها مرتفعة بشكل ملحوظ، وفوق ذلك كانت مزدحمة لدرجة أن هناك من يجلس بوضعية القرفصاء في المنتصف وهذا جعل الجو خانقاً، جلست وأنا أحاول تجاهل أكوام البشر التي تحيط بي بإحكام، بعد دقائق كنا نمر من شارع الملعب الرياضي عندما مرت العربة بشكل عابر من أمام حاجز، لم تتوقف ولكن الوقت كان كافياً لكي نرى تلك الجثة الملقاة بإهمال بجانب الحاجز، كان شكلها يحوي أنها عائدة لشاب، الزحام الخانق وذلك المشهد جعلاني أشعر بأعراض كلوستروفوبيا أخذت تتكرر لدي كلما مررت بموقف زحام خانق مماثل أو في أي موضع أشعر فيه بالحصار.
كان توقف عربات المواصلات عند الحواجز يشكل بالنسبة لي احتمالاً مرعباً لم أستطع إبعاده عن ذهني طوال الأيام التالية لذلك ومن خلال مراقبتي للشوارع بدأت برسم خريطة سير خالية قدر الإمكان من أي حاجز بحيث تبدأ من منطقة الحمدانية حيث بيت أهلي التي كان يفصل بينها وبين منطقة الجامعة حاجزين كانا يكتفيان بالنظر السريع الى وجوه الراكبين وبعد أن تصل العربة الى ساحة الجامعة أقوم بالنزول منها وأسير خلال شارع أدونيس العريض وأنعطف مع نهايته يساراً نحو ممر مشاة أعبر بعده منطقة سكنية لأصل الى شارع رئيسي وأقطعه الى الطرف الآخر بحيث أتخطى حاجزين وُضِعا في أوله وآخره لأدخل في منطقة سكنية أخرى وأصل بعدها الى مكان العمل.
كان هاجس الفرار من الحواجز يشغلني دائماً الى نحو قد يراه البعض مبالغاً فيه .. الواقع أنه لم يكن كذلك أبداً لأنني مررت بتجربة أثبتت أنني كنت على حق سأكتب عنها في مرة قادمة إن شاء الله.
استمر هذا عدة أشهر الى أن أتى يوم بدأت الصواريخ بالتساقط فوق عدد من المباني حولنا، كان صباحاً رهيباً بالنسبة لسكان الحي وقيل أن هناك امرأة قد توفت من جراء القصف، هذه المرأة وكثيرون غيرها سيبقوا في رقبة من فعلها كائناً من كان الى يوم القيامة.
كنت يومها لحسن الحظ في البيت وشاهدت وسمعت ما جرى، هنا كنت قد اتخذت قراراً بالتوجه الى تركيا، لم أرد أن أعود يوماً ما للمنزل وأشاهد ما شاهدت حصوله لمنازل أخرى، هكذا لم يمضي يومين إلا وكنت أعبر الحدود وأترك كل هذا ورائي.
الشوارع الليلية البائسة بشكلها وخلوها من الإنارة وبمن فيها وهاجس الخوف من الحواجز كل هذا لم يكن تجربة تستطيع نسيانها بسهولة لذلك بدأت تلك الكوابيس تهاجمني باصرار ..
أنا أسير في شوارع مظلمة مليئة بالحفر وأسمع صوت أناس يتكلمون بصوت مسموع داخل بيوتهم، أسير حتى أتفاجئ بأن هناك حاجزاً أمامي ..
كيف لم أره قبل أن أقترب منه الى هذا الحد !؟ ..
لم يعد هناك مجال للتراجع ..
أقترب أكثر لأتذكر أنني نسيت هويتي في البيت ...
هنا أصحو وأنا أشعر بالضيق والخوف والاختناق، تكررت هذا الكابوس كثيراً لعدة أشهر حتى أتى يوم رأيت نفسي كالعادة أقترب من الحاجز وأتذكر أنني نسيت هويتي .. هنا أكملت الكابوس وشاهدت العسكري وهو يمسكني ويدخلني الى خيمة يجلس فيها مساعد وراء طاولة وُضع عليها هاتف أسود ضخم قديم يشبه بشدة هاتف بيت جدي ..
هل سرقوه من هناك !!؟
مد المساعد يده واتصل وطلب من شخص ما أن يأتي ليأخذني الى المعتقل ..
أنا جالس هناك بانتظار مصيري المحتوم و .. أنهض من النوم وقلبي يخفق بشدة ..
الأمر المثير للدهشة أن هذا هو آخر كابوس مكرر أراه وبعدها كف سيناريو الكابوس هذا عن زيارتي.
وبين وقت وآخر والى الآن يقتحم أحلامي هذا المشهد .. الحواجز المظلمة المنتشرة في كل زاوية والطريق الصعب الطويل الذي عليّ أن أقطعه حتى لا أمر من أي أحد منها.

أكمل القراءة

رحلة الى المصحة العقلية

عام 1996 .. وجدت نفسي في مدرسة وسط المدينة تبعد عن المنزل لمسافة لا بأس بها، المدرسة عبارة عن مبنى قديم جداً كان مستشفى ملحقاً بكنيسة ثم أصبح مشفى حكومياً مستقلاً عنها ثم تحول بقدرة قادر الى مدرسة حكومية، توزيع الغرف غير متناسب مع كونه مدرسة وكنت أشعر عند تجولي في أرجاءه أنني في متاهة خصوصاً مع كل تلك الممرات التي قد لا تلحظها لو لم تدقق النظر جيداً .. الممرات التي تحوي مصاعد لإنزال الطعام الى تحت .. مرة صعدت الى الدور العلوي لأكتشف وجود تابوت خشبي ملقى بإهمال في إحدى الأركان، يبدو أنهم نسوه وهم يفرغون المستشفى من المعدات والمرضى ولا بد أنه ظل عُهدة بذمة مدير المدرسة :)
من طرف آخر كان هناك باب بدروم يقع في الطابق الأول أسفل الدرج، رآه مرة بعض الطلاب مفتوحاً فتشجعوا واقتربوا قليلاً وشاهدوا درجاً طويلاً ينتهي بساحة واسعة تنتهي بدورها بممر طويل مظلم، نزلوا الدرج وتوغلوا قليلاً في الممر ثم شعروا بالخوف وتراجعوا بسرعة، قالوا أنهم شاهدوا ما يشبه شواهد قبور أثرية متناثرة هناك، هناك من قال أن هذا الممر ينتهي داخل قلعة حلب، هذه الممرات موجودة فعلاً في أماكن متفرقة في المدينة القديمة، أخبرني أحد الأشخاص أن أقرباء له كانوا يعيشون في بيت عربي قديم يحتوي باب خشبياً سميكاً مغلقاً بإحكام وكان أبوه يحذره من محاولة فتحه ويؤكد له أن خلفه ممراً ينتهي عند القلعة.
مدرسة جديدة بالنسبة لي ومدرسون جدد، ومن بينهم كانت مدرسة اللغة الإنجليزية، كانت من ذلك النوع الذي يعتني بصحته ولياقته بحيث تبدو لغير المدقّق أصغر من عمرها الحقيقي بدزينة من السنوات.
وكان لأول درس لها في فصلنا قصة طريفة .....
عندما دخلت لفصلنا كان الفصل الذي بجانبنا من دون مدرّس وكان هناك أصوات ضجيج عال تصدر منه فذهبت المدرّسة الى هناك لكي توقف هذا الضجيج فبدأ بعض الطلاب في فصلنا بإصدار أصوات عالية، عادت لنا فصمتوا وعاد طلاب الفصل المجاور لضجيجهم السابق، نحن نتكلم هنا كما ترى عن حلقة لا نهائية وهي كانت أذكى من أن تقع بها، لذلك بقيت في فصلنا وأشارت بهدوء الى بضعة طلاب تعرف من خبرتها ومن وجوههم أنهم عُتاة الصف ثم أرسلت في طلب مدرّس العسكرية .. كان هناك واحد على الأقل في المدارس الإعدادية والثانوية في عموم سوريا .. عندما حضر أستاذ العسكرية طلبت منهم بهدوء أن يقص الشعر الذي يقع على مقدمة رؤوسهم، كانت تلك لحظات مرعبة بالنسبة لهم، كان هذا يعني الإنقطاع عن التردد فوق سور مدرسة البنات لشهرين على الأقل بانتظار أن تعود تقاسيم جمالهم لسابق عهدها، هكذا كان هناك كثير من الرجاء والاستعطاف حتى أصدرت المدرّسة عفواً عاماً على الجميع، وعاد مدرّس العسكرية بمقصه الخائب الأمل.
كان هذا درساً من العيار الثقيل وضربة استباقية محكمة بحيث لم يجرؤ أحد في عموم المدرسة على اللعب بذيله أمامها، هم معذورون طبعاً لأن هناك مقصاً في الموضوع كما رأيتم.
وصار الطلاب لطيفين جداً معها بعد أن عرفوا أن وراء شعرها الأشقر وعينيها الزرقاوتان ما هو كفيل بأن يريك أسوء كوابيسك وقد تحققت، لكن وبرغم ما جرى فيبدو أن جعبة المدرّسة من الدعابات لم ينفذ بعد لذلك سمعناها مرة تعرض علينا أن نقوم بزيارة الى المصحة العقلية لنشاهد المرضى هناك !!؟... كان هذا مغرياً حقاً والويل للجبان الذي سيرفض الذهاب، لنقل أنه كان فخاً محكماً بالنسبة لمجموعة من المراهقين الذين لا يبالون أن تدهسهم شاحنة ما دام هذا سيثبت للعالم أنهم شجعان ولا يهابون المخاطر.
ولم نتأكد من أن القصة ليست مجرد مزاح إلا عندما جاءت الحافلة لتقلنا، تبادلنا النظرات في صمت، هل من الممكن أن تتركنا هناك وتعود بمفردها !!؟، لا أحد يستطيع استبعاد ذلك وسيكون إثبات أننا لسنا من نزلاء المصحة عسير نوعاً.
بعد أقل من ساعة كنا قد وصلنا، مجموعة مباني قديمة متباعدة محاطة بسور، كان أحد المشرفين بانتظارنا وسار بنا حتى وصلنا الى المبنى الذي يحتوي الحالات الغير خطرة أو هكذا قيل لنا، هناك مرضى يتنزهون في ساحة بجانب المبنى، كانت الصورة النمطية للمريض العقلي باعتباره وحشاً يتطاير الزبد من فمه هي المسيطرة على عقولنا بطبيعة الحال لذلك تفاجئنا من كونهم يبدون طبيعيين جداً، كان هناك شخص عرفنا من لهجته أنه فلسطيني جلس بجانبنا وبدأ يغني أغانٍ غير معروفة عن فلسطين وعن المقاتلين الأوائل هناك، تحلقنا حوله لدقائق ثم أصابنا الملل وبدأنا بالابتعاد، بدأ ينادينا بعصبية لنعود له، هنا بدأنا نرى جانبه الغير طبيعي والحمد لله أن المشرف كان موجوداً.
كان هناك مرضى محتجزين ضمن غرف قديمة يجلسون وراء شبابيك مدعمة بقضبان حديدية، جلس بعضنا على الحافة المقابلة وبدأوا بتبادل الأحاديث معهم واكتشفنا بعد سؤال المشرف أنهم من النوع الخطر وأن أغلبهم جاءوا الى هنا بعد ارتكابهم لجرائم قتل وحشية ودفعنا هذا الى الإبتعاد عنهم مباشرة.
كانت هناك أصوات صراخ مرعب قادم من أحد المباني، أخبرنا المشرف أنه جناح المرضى الخطرين جداً وأن السفاحين الذين رأيناهم هم مجرد أطفال أبرياء بالنسبة لهم، كانت المدرّسة واقفة طوال الوقت تتأمل وجوهنا بانتباه وبابتسامة ساخرة خفيفة وعندما سمعت ما قاله المشرف أخبرته برغبتها الذهاب الى جناح النساء، فتنحنح المشرف وأخبرها أن أغلبهم مضى عليهم سنوات من دون أن يروا رجالاً ولا يستطيع تخيل ما قد يحدث لو اقتربنا مجرد الإقتراب منهم.
بالنسبة لي لم أكن مرتاحاً مما شاهدته بالمرة لأن وراء كل شخص منهم قصة مخيفة غالباً ولا تخلوا من حزن ولكني لاحظت بشيء من السخرية أن أغلب الطلاب الذين كانوا يدعون القوة قد امتلأت وجوههم بالرعب وباللون الأصفر الفاقع 😆 .. لا مكان للإدعاء هنا.
عدنا أدراجنا في النهاية نحو الحافلة، وقد كان أغلبنا يغمغم بكلمات غير مفهومة عن كونها أول مرة وآخر مرة .. لا أدري من أين أتوا بكل هذه الثقة!؟.
عموماً من لم يخف من المقص خاف من المصحة 😉

أكمل القراءة

أشياء صغيرة

هناك أشياء الصغيرة تمر في حياتك بهدوء وتُغيرك الى الأبد.
في صغري كنت أقف أمام شاشة التلفاز حين يبدأ الإرسال .. في الثمانينات كانت هناك قناتان فقط في سوريا إحداها كان يبدأ بثها عند السادسة مساءً وتستمر لست ساعات، القناة الرئيسية كانت تبدأ في الظهيرة بآيات من القرآن من تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله، صوت رخيم جميل كان من بدايات علاقتي السمعية بديني كمسلم، وبعدها تبدأ فقرة عبارة عن كاميرا موضوعة على عربة ما تسير باستمرار عبر طرق خضراء مع صوت موسيقى من حفلات لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ غالباً، كنت أقف أمام التلفاز مباشرة وأصغي بانتباه الى إيقاعات الموسيقى، وقد كوّن هذا فيما بعد ذوقي الخاص في الاستماع الى موسيقى الحفلات قبل صوت المطرب نفسه وبالإصغاء الى فرق العزف التي أصبحت تتوفر الآن على يوتيوب، علاقتي بما يسمونه أنماطاً جديدة للموسيقى انتهت منذ التسعينات.
خلال أيام الأعياد كان التلفاز يعرض مسرحيات معينة كنوع من كسر الروتين وإشعار الناس أنها أيام مختلفة، مسرحيات ريا وسكينة وسكّ على بناتك وشاهد ما شافش حاجة وغُربَة وغيرها، كانت تُعرض دائماً في كل عيد لذلك كنا نضطر لمشاهدتها مراراً وتكراراً، وهكذا وعلى مر الزمن صار المسرح يستهويني لدرجة أني كنت أحفظ حوار مقاطع كاملة من عدة مسرحيات، العروض الحية أمام الجمهور وليس أمام الكاميرات التي تُتيح إعادة التصوير، هنا تظهر قوة الممثل الحقيقية، والى الآن أفضل المسرح على السينما ولو وقفت أمام مدخل مسرح ومدخل صالة سينما سأختار المدخل الأول بلا تردد.
وفي تلك الأيام وفي كل الأيام كانت أماكن النزهات والتسلية قليلة جداً لذلك كانت أغلب الزيارات تتم عند بيتا جدي مع زيارات متباعدة لباقي الأقارب، لم يكن من ثقافة عائلتنا أن يلعب أحد أفرادها في الشارع، كل هذا ساعد في تقوية ذلك الإحساس المتفرد الذي تمتلأ به نفسي في كل مرة أُمسك كتاباً وأفتحه لأتأمل صفحاته في شغف وخصوصاً لو كان مجلة أطفال تمتلأ صفحاتها برسوم مبهجة كما مجلة العربي الصغير ومجلة ماجد ومجلة أسامة، وصار بعدها الكتاب هو مركز تسليتي ورفيقي المخلص حتى الآن، تلك السنوات الطويلة التي أدت أن أجلس الآن وأكتب لك ما أكتبه.
ولما كنت أكبر أخوتي والفارق بيني وبين الأخ التالي هو ست سنوات فكان من الطبيعي أن أقضي المهام التي أُكلف بها بمفردي، الذهاب لشراء لوازم البيت والى بيوت أقاربي لإيصال الرسائل الشفهية – ذهبت مرة الى بيت جدي لأبلغهم بأن أحد أولاد عم أمي قد توفى رحمه الله – وطبعاً لزيارة بيتا جدي التي كان موعد بدايتها وانتهائها صارماً جداً .. كل هذا أدى لأن أحب المشي بمفردي والى أن تصبح مواعيدي دقيقة جداً قدر المستطاع.
أشياء وتفاصيل صغيرة قد لا نلتفت إليها غالباً ولكنها تُكوّن في ثقة وبطأ ما نحن عليه .

أكمل القراءة